عالم 9 | رواية

رواية «عالم 9» (2021)

 

صدرت عام 2021 عن «دار الآداب» في العاصمة اللبنانيّة بيروت، رواية «عالم 9» للروائيّ الفلسطينيّ محمّد جبعيتي، وهي ثالث رواياته بعد رواية «رجل واحد لأكثر من موت» (2017)، و«غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» (2018).

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب.

 


 

برتقاليّ

مدينة Yes، المصحّة.                                             

بعد ستّة أشهر مرّت ببطئ، بذلت خلالها ما بوسعي للخروج من الحالة، بدأت صحّتي تتحسّن بشكل ملحوظ وتراجعت أعراض المرض. كنت أجلس القرفصاء طوال ساعات أمام حائط الغرفة، كما فعلت في طفولتي حين اندمجت باللوحة، لكنّني هذه المرّة لم أر سوى البياض. مارست التأمّل تحت أشعّة الشمس الّتي كانت تنساب من النافذة، حيث تبرز أشجار السنديان بقاماتها الطويلة وأوراقها الكثيفة. خفت الكوابيس والهواجس، شعرت أنّ رغباتي الخفيّة عادت إليّ. أعضائي بدت أقلّ إنهاكًا ورأسي أكثر خفّة. تخيّلتني أركض في الخارج بين الأشجار وأجلس على رمل الشاطئ وأتأمّل البحر.

ذات مرّة، عندما حرّكت الخزانة من مكانها، رأيت بحرًا مرسومًا على الحائط داخل نوافذ يتوالد بعضها من بعض. كانت ألوانه طازجة، رسمته امرأة مجهولة نزلت في الغرفة تخيّلت أنّ لها وجه أمّي. وجدت نفسي أتأمّل اللوحة وقتًا طويلًا، شعرت بالأمان، بقيت على هذا الحال حتّى طرقت الممرّضة باب غرفتي. تخيّلت أطفالًا يتساقطون من المراكب، يستنجدون، يمدّون أياديهم للأمّهات الغريقات في الجهة المقابلة. جذبني اللون الأزرق، لون حياتي الفائضة والحنين لطفولة معذّبة. وجدتني أبحث عن الألوان، تنقّلت بين الغرف، لم أتكلّم مع أحد، كنت أريد شيئًا واحدًا، تلبّستني فكرة الرسم، استيقظت قوى كامنة في أعماقي وقاتلت مخاوف لم أعرفها، شعرت أنّني قد أموت بعيدًا عن الألوان. تسكنني أشباح قديمة تنهض من سباتها، وتمزّقات عميقة في هويّتي تجرحني وأقاتلها وحدي. اللون سرّ توازني، من دونه أنا مختلّة يعطبني العالم. هامشيّة. الأطبّاء يرونني مريضة بلا جذور وبلا مكان، مهاجرة هربت من بلادها تروي حكايات كاذبة، تخترع معاناة لتنحت هويّة متخيّلة، شعورها بالنقص يدفعها لارتكاب أيّ جريمة لتلفت الأنظار. قصّة حياتها محض خيال وجنونها تظاهر، وما تعانيه أزمة بحث عن هويّة جذورها ضاربة عميقًا في الخداع.

اعتادت ممرّضة في الأربعينات أن تبادلني الحديث أثناء فترة استراحتها، كان وجهها ناعمًا وصوتها حنونًا، طويلة القامة ترتدي ملابسها الزرقاء التقليديّة. عندما تمسك يدي أشعر بالدفء الّذي افتقدته. ذات مرّة سألتني: لماذا تتحدّثين عن السلاحف طوال الوقت؟ "لأنّني سلحفاة"، قلت لها دون تفكير. فقد وجدتني أتصرّف مثل سلحفاة، عندما أنام على ظهري أشعر بكسل رهيب، وبعد أن أمشي خطوات قليلة أتوقّف لأستريح، أشعر بحمل ثقيل على ظهري وأحتاج لبعض الوقت قبل أن أستوعب ما يحدث.

- "لا تيأسي، هل تحبّين الرسم؟"

- "أحبّه أكثر من أيّ شيء".

- "ستخرجين من هنا، فقط تحلّي بالعزيمة".

- "أنا متعبة".

- "هذا المكان يوفّر العزلة عن العالم الخارجيّ، العلاج، الهدوء، جلسات التأمّل، إنّها فرصة للراحة، يجب أن تساعدي نفسك ليساعدك الآخرون".

حدّثتها عن اللوحة الّتي اكتشفتها في غرفتي، أجلس كلّ صباح أتأمّلها، فأهدتني بعض الطباشير، فتنتني ألوانها، خفّتها، غبارها على أصابعي. كانت الألوان تهمس أنّ حياة جديدة في انتظاري. هذا ما تفعله فتنة الألوان. لغة تعشقها الروح التوّاقة. لغة مغويّة، محلّقة. تجاسرت على المغامرة، رسمت وأنا غائبة عن واقعي، فحوّلت الجدران إلى لوحات. كنت أحسّ أنّني غارقة في بحر عميق، أغوص بعيدًا في ذاتي.

الرسم يأخذني إلى عالم بعيد، أبعد ممّا قد يتصوّره إنسان. الرسم سيّد المعجزات. هل من الممكن أن أتداوى بالرسم؟ كيف أحوّل اللون إلى ترياق؟ هذه اللغة الّتي لا يعرف أسرارها سواي، تبوح باختلاجاتي، تشبهني وترسمني حدّ الفضيحة. عندما أرسم أكون أكثر انسجامًا مع نفسي وأقلّ احترابًا مع العالم. أردت طريقة للتحرّر، للهرب خارج الجدران. فكرة الحرّيّة استولت على تفكيري فبدأت أحرّض خيالي. انطلقت أرسم بشغف طوال ليال كاملة، وعندما تنفد الطباشير والألوان أحرّك أصابعي على جدران الغرفة حتّى ينزف. الإحساس بالسقوط قلّ حضوره وقلبي عاد ينبض، أشعر به يرتجف كأصابعي الخجلة أوّل الرسم من عذريّة البياض. تدريجيًّا، بدأت الإحساس بأشياء جديدة كانت غائبة عنّي مثل الهدوء والفضول والشغف والرغبة في الحياة.

مع الأيّام، بدأت الألوان تجذب المرضى، استطاعوا أن يخرجوا ما بداخلهم، صارت أياديهم أكثر ثباتًا، يبدو أنّ الرسم حفّز شيئًا ما في أعماقهم وأكسبهم القوّة. شعرت بطاقة كبيرة لأوّل مرة منذ انهياري، ابتسمت لنفسي في انتصار بعد شهور من العذاب. كنّا عشر نساء نجلس في حلقة لنرسم ما نشاء. الأكتاف متراصّة والعرق يسيل من أجسادنا، لا نكترث بالرائحة، نلتصق ببعضنا أكثر كأنّنا نحمي أنفسنا من الخارج، من الغريب، من الرجال. نرسم وجوهًا، أشجارًا، بيوتًا، غيومًا مرتحلة، ولا يسمع غير أنفاسنا، يخيّم الصمت على أجسادنا المتموّجة وفرح لذيذ يسري في أصابعنا. أنقذتنا الألوان من الرعب والشعور بالعدم. استعدنا طاقتنا ونشاطنا وصرنا أكثر تماسكًا. كانت اللوحات الرديئة الّتي نرسمها عزاءنا الوحيد في عالم يستلب روحنا وينتهك أجسادنا، ومتنفّسًا لهواجسنا وأفكارنا الّتي تحرّرت من جحورها وتجاوزت أسوار المصحّة العالية كاسرة حالة اليأس. حاولنا الهرب إلى عالم رحيم، حيث الألوان والناس طبيعيّون، ليس فيه اغتصاب وحروب ولجوء وقمع وعنصريّة وجوع وأمراض. فكّرت: في الخارج، كم من النساء انمسخن إلى سلاحف؟

على أغصان الأشجار كانت الطيور تتقافز، ترفرف بأجنحتها، تزقزق، تهبط أحيانًا لتلتقط قوتها وتطير. أحبّ أن أطعم العصافير بيدي، وأن أرقبها عن بعد، كائنات رقيقة تغرّد في الصباح وتحلّق بأجنحتها ملوّنة الريش. لماذا من قدر البريئات والطيّبات أن يتعرّضن للأذى؟ آه... لشدّ ما هم متوحّشون! متوحّشون وقساة أولئك الّذين يؤذون العصافير. لا أريد أن أكون أيًّا من الطيور، أريد أن أتعلّم الشراسة، القوّة، كيف أدافع عن نفسي دون مخالب. أقول لنفسي وقتها كنت صغيرة وضعيفة، فأتوقّف عن جلد ذاتي. سمعت قصص النساء من حولي. توحّش الرجال، تحوّلوا إلى مخلوقات قاسية تصرخ وتضرب وتغتصب، تنهش بأنيابها أجساد فتيات بريئات. نداء الجنس عندها أقوى من أيّ نداء آخر.

صارت المصحّة عالمي. ما من أحد ينتظرني في الخارج. قبل أن أدخل المصحّة انقطعت عن العالم، لا أدري ما حدث فيه من كوارث، كنت فقط منعزلة في غرفتي. انتظرت، انتظرت طويلًا خلاصي. امتصّني العالم وتركني وردة ذابلة، لو أملك أن أعيد العمر لبدأته من الزلّة الأولى، وكنت للأخطاء وفيّة، أنا الّتي أخطأني الحظّ. لم أخطئ، لكنّني دفعت ثمن أخطاء الآخرين. صرت أكثر جهلًا بي. جفّ اليقين وتوحّش الشكّ. ماذا أفعل؟ أنفض عن جسدي طعناته، أربّي الأمل مثل قطّ سياميّ. وحيدة أحارب الجنون، لا حبيب يضمّني بين ذراعيه ولا أهل يقاسمونني ضجر الشتاء، وحدها الألوان منذ عرفتها منفاي. بعد مزيد من الرسم وعشرات الطباشير، منحتني الألوان ولادة جديدة، وشرعت لي أبوابًا لم أعرفها. كنت ألاحق اللون وأعرّيه، أحضنه، أشمّه، أجد فيه الدفء. بوسعي فعل شيء غير انتظار الموت.

 فكّرت أن أدفع المرضى للرسم، خطر لي أنّ حالتي الصحّيّة تحسّنت بعد أن عاد شغفي بالألوان، فقد تخلّصت من التوتّر وتخيّلاتي المرضيّة. خلال جلسات الرسم، كنّا نتفتّح مثل الزهور، نتبادل أحاديث مطوّلة، ثمّ بهدوء ودون أن نشعر أخذت ضحكاتنا تتعالى، تحوّلت جلساتنا إلى حفلات رقص وغناء. كان هدفنا أن نظلّ أحياء وسط الموت الّذي يحيط بنا. وجوهنا متعبة، أيادينا ترتجف، لكنّنا رقصنا بجنون. استعدنا فرحنا، صارت تسعدنا أبسط الأشياء، أشرقت ابتساماتنا على الرغم من الغضب، نتخاصم ونتصالح، نبكي ونصرخ، الألوان قاربت بيننا، وانتابت كلًّا منّا رعشة الحياة.

كيف حدث ذلك؟ كنّا متشائمات صامتات، فجأة تحرّك شيء ما في داخلنا، ثائرًا على اليأس. نقاوم، نضحك، نغضب، فكّرنا أنّنا لن نموت بملابس الحداد دون إحداث ضجّة. لا أعرف ما السرّ وراء اليقظة الّتي شعرنا بها. هل رغبة كامنة تفجّرت بعد كبت طويل أم سذاجة طفوليّة؟

 أنشأنا أخويّة التأمّل والرسم. بعد عدّة جلسات شعرنا بالاسترخاء وأنّ لدينا ما نحتاج إليه، مكان هادئ بعيد عن العالم، بقعة مليئة بالأشجار والهواء النظيف. عالم يجمعنا واهتمامات مشتركة. أضفنا إلى جلسات الرسم تمارين صباحيّة. في كلّ يوم يغادرنا وجع أو حزن، فنشعر أنّنا صرنا أفضل. الراحة، التوازن، الخروج من الحدود الضيّقة، التجربة، الاستماع للعواطف. أحيانًا ونحن محاطات بالصمت، نتمدّد تحت أشعّة الشمس لنسمح للدفء أن ينتشر في أجسادنا. كان للدفء نكهة مختلفة ولذيذة. نفكّر بالعالم الخارجيّ، نحن اللّواتي يعذّبنا التفكير، نحلم به أقلّ وحشيّة، نخلقه من وهم وخيال. كنت أنظر إليهنّ غير مصدّقة. الحزن يبتعد ليحلّ مكانه الضحك. يا لحيواتنا المسروقة! يا لأعمارنا الضائعة! لو كان العالم غير العالم، لو أنّ الإنسانيّ فينا انتصر على المتوحّش. نرقص في الساحات عوضًا عن التشقّق، التأسّي، التمزّق واليتم اليوميّ. هل سأبني علاقة مختلفة مع العالم؟ لماذا لا أحبّه؟ ربّما يجدر بي أن أعيد فهمه، أن أبتكر طرقًا بديلة للطرق القديمة. كم تناهى إلى سمعي صوت ساخر، يقول بثقة أنّه لا أمل لي بالنجاة. رغم الأصوات صرت أكثر هدوءًا. هواء نقيّ خفيف يعبرني بين الفينة والأخرى. الممرّضة الطيّبة وفّرت لي مزيدًا من الألوان. غمرتني بسعادة حقيقيّة. طاقات هائلة تدفّقت في شراييني وحيويّة نبضت تحت جلدي. أحيانًا تتحوّل الطاقات إلى عذاب إن لم تجد منفذًا للخروج. كنت أعشقني ملطّخة بلون العشب، حينها أغيب في عالم لذيذ وشاعريّ.

 


 

محمّد جعبيتي

 

 

 

كاتب من فلسطين، حاصل على الماجستير في الأدب العربيّ، يعمل في مجالي التعليم والصحافة. ممّا صدر له: «غاسل صحون يقرأ شوبنهاور»، و«عالم 9» عن «دار الآداب».